السبت، 26 سبتمبر 2009


مقالى هذا تم نشره بموقع " رسالة الاسلام " بتاريخ 25/9/2009 م



" امريكا وعنصرية القرن الحادى والعشرون "

أكثر من خمسة قرون مضت منذ أن اكتشف "كولمبس" بالصدفة الأمريكتين حيث كان يسعى إلى الوصول للهند لا للكشوف الجغرافية، وتم اكتشاف الأرض الجديدة (أرض الذهب) كما كانت تسميها أوروبا عام 1492، وعندما أحضر السود كعبيد من دول أفريقيا وهم يعاملون بنفس الصفة وكمواطنين من الدرجة الثانية بل تستطيع أن تقول الدرجة الثالثة أو الرابعة، وظل السود كعبيد لا يتمتعون بأي حقوق ولا يمارسون أي أنشطة كمواطنين أمريكيين سواء كانوا من السكان الأصليين أو ممن رحلوا إلى الأرض الأمريكية الجديدة من أوروبا وأفريقيا، ومع آمال الأوائل منهم في أن ينعموا بحياة جديدة وشكل أخر من أشكال الحرية والسعادة على تلك الأرض إلا أن بريطانيا وفرنسا ومن ورائهم أوروبا ظلوا يستقدمونهم كعبيد ولا يجدوا لهم حقا فى الحرية أو العيش كمواطنين مستقليين حتى ومع دعوة المؤسسين الأوائل لأمريكا أمثال "توماس جيفرسون" أو "جورج واشنطن" أو "جون ادامز" أو "جيمس ماديسون" في رفض العنصرية والدعوة الى المساواة.
ورغم جهودهم الكبيرة في إعلان الاستقلال الأمريكي عن أوروبا وبريطانيا والكنيسة الكاثوليكية ودعوتهم إلى استقلال الإنسان الأمريكي، وحقه كمواطن فى أن يعيش وينال كل حقوقه من التعليم والرعاية الصحية والمواطنة، وكذلك دعوة "جورج واشنطن" (1723-1799 ) كأول رئيس أمريكي مهد الطريق للحرية الدينية في المستقبل بتوضيحه ضرورة عدم تأييد الحكومات لأي اضطهاد ديني أو تعصب.. إلا أن السود لم ينالوا حقوقهم كاملة وظلوا يعاملون معاملة خاصة، وظلت الحرية لديهم تعني أشياء مختلفة في الأوقات المختلفة ففي زمن العبودية كانت الحرية تعني التحرر من القيد، وبعد التحرر كانت تعني حرية التعليم والعمل والتنقل من مكان لأخر وفى القرن العشرين أصبحت تعني العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
معارك السود من أجل الحرية
ولقد خاض السود معارك طويلة وعديدة ومستمرة وقاد القساوسة السود الثورات الثلاث الكبرى التي قام بها العبيد في التاريخ الأمريكي، وبعد الحرب الأهلية في أمريكا صدر قانون الحقوق المدنية عام 1867 والذي أباح مشاركة الأمريكيين السود في العملية السياسية لمدة عشر سنوات تقريباً ثم انتهى بعد ذلك العصر القصير لمشاركة السود في النشاط السياسي.
وبذل السود جهودا كبيرة ومحاولات عديدة لنيل حريتهم وحقوقهم المدنية وظل صراع السود ضد التعصب والعنصرية حتى مطلع القرن العشرين وبدأ يأخذ أشكالا متعددة في شكل ( مسيرات – مقاطعات – اعتصامات – مواكب للحرية ) وإنشاء جمعيات مناهضة للعنصرية قامت على أساس الحقوق المدنية مثل "الجمعية الوطنية لتقدم الملونين" والتي أنشئت عام 1909، وجمعية "عصبة الحضر" التي أنشئت عام 1911.
ولعل الواقعة التي حدثت في أحد أيام ديسمبر عام 1955 في مدينة "مونتجمرى الاباما" كانت في غاية الأهمية، وذلك لنتائجها المبهرة آنذاك حيث جلست "روزا باركس" عاملة سوداء متعبة في طريق عودتها من العمل إلى بيتها في الأتوبيس في الجزء الأمامي الخاص بالبيض ورفضت الانتقال إلى الجزء الخلفي عندما طالبها سائق الأتوبيس بذلك ولهذا السبب تم القبض عليها وأودعت في السجن، ورداً على هذا الحادث قام قادة السود في "مونتجمرى" وأغلبهم من القساوسة بتنظيم مقاطعة لأتوبيسات المدينة، وبعد ما يقرب من عام نجحوا في إلغاء الفصل العنصري داخل وسائل النقل في المدينة.
وتكرر هذا السيناريو في كثير من المدن الأخرى واعتبرت هذه المقاطعة الناجحة نموذجا وإلهاماً لكثير من احتجاجات الحقوق المدنية والتي حدثت بعد ذلك خاصة خلال السنوات الأولى من ستينيات القرن العشرين.
ولقد انتهت هذه المحاولات إلى أن يقود حركة المقاومة قسيس شاب هو دكتور "مارتن لوثر كينج الصغير" وأدت قيادته للمقاطعة في النهاية إلى قيادته العامة لحركة الحقوق المدنية، وكان "مارتن" دائماً ما يدعو إلى احتجاج غير عنيف يشمل العصيان المدني وتعمد عدم إطاعة القوانين الظالمة.
وبدأت تتحسن أوضاع السود ويسمح لهم بالمشاركة في الحياة العامة والحياة السياسية مع بدايات السبعينيات والثمانينيات ولكن ظل هناك توجس لدى السود من العنصرية وتوابعها في أمريكا، ولكن استطاع السود ولأول مرة أن يرشحوا في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1984 رجلاً أسود، وكان "جيس جاكسون" قسيسا أسود موهوباً لفت إليه أنظار السود أثناء عمله مع "مارتن لوثر" في حركة الحقوق المدنية وكان مرشحاً ضد "ريجان" و"مونديل".
ولا زال السود يصوتون إلى جانب الديمقراطيين في كل انتخابات ويعتبرون أنفسهم ديمقراطيين ويتمسكون بكثير من الأخلاقيات في كثير من القضايا والمواقف مثل (الإجهاض - والصلاة فى المدارس العامة) ويعتبرون أنفسهم أكثر محافظة من البيض.
السود يصلون إلى البيت الأبيض
وأخيراً نجح السود في أن يصلوا بالمرشح الأسود ذو الأصول الأفريقية إلى سدة الحكم ليعتلى "باراك اوباما" كرسي الرئاسة في البيت الأبيض في أوائل العام الماضي ليكون بذلك أول رئيس أسود للولايات المتحدة الأمريكية ليطلق السود العنان لعقولهم لكثير من الأحلام والآمال ولمزيد من الاهتمام والحرية والرفاهية وتحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في ظل قيادة سوداء تشعر بآلامهم ومعاناتهم طيلة خمسة قرون مضت.
ولكن يبدو أن جذور العنصرية لم تختف ولن تختف من تلك الأمة المزيفة التي تدعى الحضارة والديمقراطية وتفتخر بذلك التمثال الذي يحمل آمال الحرية الكاذبة على الأرض الأمريكية حيث فوجئ الرئيس الأمريكي "اوباما" وهو يلقى برنامجه لإصلاح الرعاية الصحية أمام أعضاء الكونجرس أوائل الشهر الحالي(سبتمبر 2009) بالنائب الجمهوري "جو ويلسون" يصفه بالكاذب والتي اعتبرها الرئيس الأسبق "جيمى كارتر" ذات دوافع عنصرية وأن بعض المحافظين والجمهوريين يرون انه لا يجب أن يكون "اوباما" رئيساً لأمريكا لأنه من أصل أفريقي، وحيث أنه لم يسبق أن اتهم رئيس أمريكي بالكذب من قبل مشرع بالكونجرس خلال جلسة رسمية وبحضور كافة الأعضاء، ورغم نفى البيت الأبيض بان دوافع الانتقادات الحادة من المحافظين بأنها عنصرية إلا أن تداعيات الموقف مازالت تشغل بال الكثير من المحللين وكذلك الأمريكيين، وخاصة السود وخاصة مع ردود الأفعال الباهتة تجاه ما حدث والتي لم تشف غليل المواطنين السود حيث عبرت "نانسى بيلوسى" رئيس مجلس النواب الأمريكي عن قلقها من تنامي العنف الكلامي ضد خطة "اوباما"، وكذلك من اللغة المستخدمة ضد "اوباما" والتي قد تصل إلى درجة العنف، وكذلك رفض المحافظين أن يكون النعوت التي أطلقوها على "اوباما" سببها العنصرية واختيارهم لـ "مايكل ستيل " للرد على تصريحات كارتر واعتبارها مشينة ولا أصل لها من الصحة حيث أن "مايكل" أول رئيس أسود للجنة الحزبية القومية بالحزب الجمهوري.
وفى النهاية يبقى التساؤل المهم والذي ينبغي على الشعب الأمريكي بلونيه الأبيض والأسود الرد عليه خلال السنوات القادمة.. هل ستسمح أمريكا بنسيان العنصرية وإعطاء الحقوق للسود للعيش كمواطنين أمريكيين وأحرار داخل بلادهم يتمتعون بالعدل والمساواة والحرية؟؟ وهل تستطيع النفسية الأمريكية البيضاء نسيان أجواء العنصرية التي توارثتها الأجيال عبر قرون مضت؟ وهل تستطيع النفسية الأمريكية السوداء أن تتناسى أجواء خمسة قرون مضت من العبودية والتفرقة لتستطيع التعايش كأفراد عاديين داخل أمريكا؟ أم ستظل أمريكا تدعو إلى شيء وتمارس أشياء أخرى!!، هذا ما ستجيب عليه السنوات القادمة من حكم "باراك اوباما".